٢٠١١-١٠-٢٥

ضيعة ضايعة… شبيح ع الريق

“بقطفلك بس هالمرة، هالمرة بس ع بكرة”… كلمات اعتادت أن تصدح بها فيروز كل صباح في تلك المدينة العتيقة ذات الأحياء الشعبية الهادئة التي لا يلبث فيها أن يغلق بها أحد الجيران باب بيته بقوة مغادراً إلى عمله حتى يستفيق جميع أهل الحي، و تبدأ الحياة في كل أرجائه و منها بيتنا العربي القديم. على أنغام سفيرتنا إلى النجوم، والتي بالمناسبة أشعر لغاية اليوم ببرودة خفيفة في جسدي عند سماع بعض أغانيها لارتباطها في ذاكرتي بذاك الصباح الباكر البارد، على أنغامها تأزف ساعة الانطلاق إلى المدرسة لنغدو فيها أرتالاً متتالية، سائرين بجسد متكاسل على ذلك الطريق الذي رافقنا و رافقناه سنين طويلة، تغيرنا فيها كثيراً وأبت حجارته و أرصفته المنهكة أن تتغير…
إعتدت أن أبدأ يومي على وقع هذه الموسيقى منذ لحظة نهوضي من ذاك السرير الذي يحضنني بحنان و يأبى مفارقتي، أو حقيقة أرفض أنا بيأس ترك دفئه، منتظراً ابتسامة تلك الامرأة المليئة بالحنان و الحب النقي وكأنها لم تراني منذ عقود… لعل عقلي الباطن لا يفكر كثيراً بذلك وحده، بل أكاد أجزم أن ما يدفعه ليأمر جسمي بمغادرة الفراش هو رائحة القهوة العربية التي اعتاد عليها، تعدّها ذات القلب الدافئ، و التي تنتهز دقائق الصبح القليلة الأولى معي لتقص عليّ ما فاتني من أحداث البارحة و لربما تشكي لي همها أو قلقها من أمر معين، فقد كنت، ناهيك عن كوني ابنها، صديقها المقرّب والذي للأسف لم يعطي تلك الصداقة حقّها بالكامل آنذاك واستغرق الأمر بعض الوقت ليدرك أهميتها و معناها الحقيقي… لكم أتمنى أن تعود بي الحياة لتلك الأيام لأثمن كل دقيقة معها و أعيرها كل اهتمامي و أحاسيسي الانسانية و هي تروي حكاياتها مع زملائها في العمل و نساء الحي.
ما تغيّر في كل هذه السنين هو الراديو في غرفتي اليوم لا يجيد لعِبَ أغاني فيروز ولا يستطيع فك رموز كلماتها المشفرّة، من مثل “خدني يا حبيبي ع بيت مالو بواب”، و “ممحي ورا حدود العتم”… فتراني مضطراً إلى مغادرة المنزل مسرعاً، في يومٍ سيكون طويلاً هو الآخر، علّني أحتفظ برغبتي في الاستماع للموسيقى عندما أصل إلى مكتبي في العمل لأستمتع بلحظات بين السحاب. لكن حتى هذا قد تغير الآن، فالثورة قد اندلعت، تأن الأرض بها قبل الأرواح الحرة، تدوي في كل سماء مع كل مشهد، و في كل صورة ساكنة، و مع كل خبر…
أمسى حلم ملامسة الغيوم حقيقة وأنت تشاهد مقطعاً جديداً تعلو فيه هتافات الجموع عالياً عالياً، في صورٍ مضحكةٍ لحد الجنون تارةً، و عميقة لحد الحزن الرقيق تارةً أخرى.. وبخاصة ليالي السمَر تلك على وقع الهتاف و تشابك الأيدي و التحام أكتاف الأخوة بصورة أسمى بكثير من عناق المحبين.. فهؤلاء عناقهم مختلف، أتى بعد غربةً فرضت عليهم ليبتعدوا فيها عن بعضهم، رغم التصاق جداران البيوت ببعضها، لأكثر من أربعة عقود… حين حلّ حبّ “الشخص” محل حب الجار، و مصلحة “الوطن” قبل مصلحة المواطن، و عبادة الحاكم سبيلاً إلى الحياة الآمنة بعيداً عن قسوة الجلاد الجائر. لذلك أتى الالتحام اليوم أقوى و أجمل و أروع من أيٍّ غيره، تكاد تحسّها و أنت المشاهد وتتمنى أن تطير بك الأحلام والمسافات كي تكون بينهم الآن حالاً.
علاوةً على كل ما أتت عليه ثورتنا المباركة في سوريا من تغييرات جذرية، فكرية وسياسية و اجتماعية في حياة الجميع، لا بل في العلاقات الدبلوماسية بين الكثير من دول العالم، فإنها أيضاً غيرت الكثير من طقوس حياتنا اليومية و لاسيما حالة النوم والاستيقاظ… أذكر منها الاتصالات الأمنية “التشبيحية”، و التي غدت إلى حدٍ بعيد روتينية في معظم الأحيان، حتى قبل قهوة الصباح لا بل و قبل أن تفتح عينيك بشكل كامل.. لربما يسعون إلى تدمير نهارك بشتى الوسائل، فإن لم تُعر انتباهاً يُذكر لكلمات التهديد و التوعيد فإنك بالضرورة ستتذمر لاحقاً مع مرور ساعات النهار، المرهقة أصلاً، جراء قلة النوم الناجمة عن هذه “الصبحية المباركة” من شبيحة البعث في أروربا…
مثل هذه التصرفات تجعلني أفكر ملياً في مقولة قيادة العالم التي اقترحها أحد مهرجي السلطة في مجلس الشعب على وليّ نعمته… ترى فعلاً يعتقد هؤلاء أنهم يحكمون العالم بأكمله ولهم سلطة المنع و الحجب حتى في بلاد أقدس ما فيها، بعد كرامة الإنسان، حرية الرأي و التعبير، كي يأتوا يطلوا علينا متوعدين بطائلة التظاهر أو المشاركة في النشاطات الحقوقية التي تسعى لاهثة لإيقاف حمام الدم في سوريا، تعمل على إرسال التبرعات ومساعدة المتضررين و المصابين برصاص الأمن المجرم، الذي دفعوا هم أصلاً ثمنه مرارةً ومعاناة لعقودٍ طويلة خلت. و نحن إن كنا اعتدنا على هذه الأساليب الواهية و طورنا وسائل دفاعنا ضد مثل هؤلاء المرتزقة، فإننا نرجوا شبيحتنا الكرام تأخير موعد مكالماتهم الصباحية إلى ما بعد موعد الفطور، لأن حالة “شبيّح ع الريق” تكاد تكون أقسى حالات التعذيب الإنساني التي تشجبها كافة المنظمات الحقوقية على سطح الكرة الأرضية.

هناك تعليق واحد: