بالصدفة البحتة أرسل لي أحد الأصدقاء نص حوار بين ناشطين سوريين معارضين للنظام السوري. للوهلة الأولى لم أستوعب ما الموضوع الذي كانوا يحاولون الوصول لأن النقاش كان حول "بيان للمواطنة" و قد رأيت العديد من هذه البيانات من قبل. ولكن و بعد تركيز مقتضب اكتشفت أن المتحاورين هم ناشطون ذوي أصول علوية و كانوا ينسقون لاصدار بيان باسم أبناء الطائفة يدعو لاسقاط النظام و يستنكر محاولات النظام ربط الطائفة به و يستنكر طائفية بعض أطراف المعارضة (في داعي اذكر أمثلة عن طائفية بعض أطراف المعارضة؟ أنا متأكد أن كل شخص سوري يعرف ما لا يقل عن المئة معارض طائفي, مشهورا كان أم مغمور, سنيّاً كان أم علويّا).
أنا من حيث المبدأ ضد هذه الأنواع من البيانات التي تدلل على الطائفة لأنها بنظري طائفيّة مقنّعة. ولأني علماني الفكر فأنا أرفض الدلالة إلى الانسان بأي شيء سوى بمواطنته و سياسيّا حسب موقفه السياسي. و الجدير بالذكر أنني أعرف شخصيّا عدد من الموقعين و أُتابع عدد آخر منهم على مواقع التواصل الإجتماعي و لم أعرف عنهم أبدا من قبل ماهية انتماؤهم الطائفي (لا بالولادة و لا بالممارسة) وهم ناشطون مثقفون معظمهم علمانيون و قسم كبير منهم يساريون و الهويّة الطائفية بالنسبة لهم لا تتجاوز كونها إرثاً اجتماعيّا لا يحتكرونه بل هو ارث يضاف لتراث الوطن السوري الغني والذي هو ملك لكل مواطن سوري على اختلاف قناعاته الفكريّة.
أكملت في قراءة النقاش, و كان بين المدعويين لتنسيق البيان أُناس معارضون على الأرض ومن داخل سوريا. و بعض هؤلاء لم يوقعوا لأنهم رفضوا أن يدللوا على أنفسهم بإنتمائهم الطائفي. و بالمناسبة, هذا ليس أول بيان عن مثقفي الطائفة يرفض عنف النظام, ولكنه من البيانات القليلة التي رأت النور وصدرت وذلك لأن قسماً موقعوه وافقوا أن يدللوا على طائفتهم عند الولادة أما البيانات التي سبقت فلم يظهر معظمها للعلن بسبب الرفض المطلق لهذه النقطة بالذات. انتبه: الخلاف ليس على رفض عنف النظام و الدعوة لاسقاطه من رأسه لقاعه, بل على التدليل الطائفي.
تابعت في القراءة و لم يخلو النقاش من تساؤلات متعجّبة لكل شخص يُضاف للنقاش حديثاً عن سبب الدلالة للطائفة حيث أنها مرفوضة في فكرهم, وكان الجواب السريع و الضارب على الوتر الحساس أن هذه الدلالة ضرورية للضغط على النظام و سحب ذرائع طائفيي المعارضة و لأن الاستقطاب الطائفي أصبح خطيراً و لايكفي أن نكون معارضين, رغم أننا كذلك منذ البداية, بل يجب أن نُعرف في الشارع على أننا معارضين علويين... و لأكون صريحاً, هذا الكلام اللامنطقي نظريّا أصبح ,في زمننا و على أرض الواقع, كلاما موزوناً راشداً يُدرّس..
في هذه الظروف الراهنة في سوريا السياسة و المجتمع, أصبح قسمٌ من السوريين متهماُ مداناً حتى تثبت براءته التي قد لا تشفع له أحياناً. والكارثة هنا أن المثقفين السوريين (علويو, سنيو, مسيحيو... المولد) الذين أشهروا انتماءهم لأيدولوجيات فكرية و ثقافيّة مختلفة, صاروا ملزمين للعودة و الدلالة على أنفسهم إلى إنتماءات نسوها و ظنّوا أنهم تجاوزوها كما سيتجاوزها الزمان و التاريخ. الثورة التي يجب أن تدفع بواقعنا نحو غد أفضل, أصبحت تدفع بنا نحو ماضٍ خُيّل لي أننا بدأنا بتجاوزه. علّّني أكون مخطئاً و هذه الخطوة للخلف هي مقدمة لعشر خطوات للأمام.
اتفق المتحاورون و أوجدوا صيغة البيان النهائيّة و نشروها. و تدافع المئات من السوريين يباركون لهم و يضيفون أسماءهم و يُخبرون بعضهم و يتناقلون البيان. و لقي هذا البيان صدى طيّب عند العديد من الناشطين و معارضي النظام. و لكن الموضوع لا يخلو من "قفشات" جماعة "أنا لست طائفيا ولكن..." .حيث و بعد نصف ساعة من نشر بيان من أجل المواطنة على صفحة الفيسبوك, كتب أحدهم: "معقول؟ ألا يوجد سوى 108 'شريف'؟" و كتب آخرون على التويتر: "بيان المواطنة يصدره مجموعة من العلويون يتبرأون من النظام... والله تأخرتم.". و أخر كتب: "أين كنتم؟ الآن حين رأيتم قُرب زوال النظام تريدون ركوب الثورة؟"..
و سؤالي هنا, هل يكفي هذا البيان و مثله ألف ليغير رأي الطائفيين؟ هل يكفي لكي يتوقف الناس عن الدلالة للناشطين الـ"علويو المولد" بـ"شرفاء الطائفة العلوية"؟ هل يكفي لكي يحقن الدم السوري الذي يُسال كل يوم في حمص و غيرها؟؟ هل سيساهم هذا البيان في التخفيف من خوف "الأقليات"؟ أتمنّى ذلك, و مشكورة جهودكم ولكن.. الله (أو غيره) يلعن يلي وصلنا لهون نظاماً كان أم الجّن الأزرق.. ورغم رفضي من حيث المبدأ, فأنا فخور بشجاعتكم أيها الموقعون السوريون.. و السوريون فقط و بغض النظر عن المولد.
رائع
ردحذف