٢٠١١-١٠-٠٤

منقول: ثورة واحدة لا تكفي

 رزان زيتونة (كاتبة وناشطة حقوقية سورية)

لا يصدق كثيرون أن من الممكن وسط هذه الهمجية التي يُعامل بها السوريون من قبل نظامهم، بقاء مساحة لمشاعر أخرى غير الغضب والألم. في الواقع، هناك من لا يزال يقابل البندقية بالورود. يبدو ذلك للوهلة الأولى إفراطاً في حسن النية والطوباوية. لكن ثوار الورد ينظرون إلى الأمر من زاوية أخرى، فهم يأملون أن الثورة قد تغير أكثر من النظام وأبعد.
منذ بداية الاحتجاجات، أدرجت لجنة تنسيق داريا في ريف دمشق، مبادرة حمل الورود في جميع المظاهرات. وردة لكل متظاهر. شباب اللجنة هم ممن يتبنون النضال اللاعنفي، ولبعضهم تجارب سابقة في هذا الإطار ضمن ما عُرف بمجموعة داريا التي تعرضت للاعتقال عام 2003 على خلفية تنظيف المدينة وتوزيع "روزنامات" كتبت عليها عبارات ضد الرشوة، والتظاهر السلمي الصامت احتجاجاً على احتلال العراق، وغيرها من الأنشطة التي لم تكن مألوفة على الإطلاق في ذلك الوقت في سوريا.
مع ذلك أعجز عن تفسير كيفية استمرار إقناع اللجنة للمتظاهرين بحمل الورود. يبدو المشهد مفارقاً وينتقص من "درامية" الحدث وما يحاط به من عنف في كل مرة تواجه بها المظاهرة بالهراوات والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع.
يحيى شربجي أحد أبرز القادة الميدانيين في المدينة، يقول إن داريا نفسها بحاجة للورود.. الثورة مناسبة لنتغير نحن أيضاً، يقول.
أراد بعض الشبان في البداية مواجهة قوى الأمن الموكل إليها قمع المتظاهرين، بالحجارة، واحتاج الأمر لكثير من النقاش والجدل حتى اقتنعت أغلبية الشباب المتحمس بأن المواجهة تكون فقط بالصمود وعدم الهجوم، وأن قادة
الحراك من واجبهم الدفع بإبقاء الحراك الاحتجاجي على سكته الصحيحة حتى لا ينحرف إلى ما يدفع النظام باتجاهه، سواء من حرب أهلية أو عنف مضاد، على حد قوله. حتى أن يحيى ورفاقه حاولوا استبعاد استخدام بعض المفردات التي توحي بالنضال العنفي، مثل كلمة "ثوار"، المستخدمة في النموذج الليبي، وأصروا على استخدام عبارة "شباب الثورة" أسوة بالنموذج المصري.
بطبيعة الحال، تدور الكثير من النقاشات بين الشباب حول بعض الممارسات، من مثل ما إذا كان قذف الحجارة أو إشعال الإطارات كرمز احتجاجي، يخرج بالمظاهرة عن سلميتها أم لا.
بالنسبة ليحيى، وعلى الرغم من أن مثل تلك الممارسات لا تتعارض مع سلمية الثورة، لكنه يقف ضدها بشدة. فهو يرى فيها عملاً استفزازياً لجنود صغار معظمهم تحت سن العشرين يؤدون الخدمة الإجبارية، تحت شحن دائم من قبل رؤسائهم وبمعزل عن عائلاتهم ومجتمعهم منذ عدة أشهر. عندما يشاهد هؤلاء الدخان والنار يشعرون أنهم في معركة هم طرف فيها، يقول.
أحد الشبان الذين خدموا أخيراً في قوات حفظ النظام، وصف كيف يتحول الأمر إلى "مسألة شخصية" عندما تتعلق بمواجهة المتظاهرين للجنود الذين يقمعونهم. فعندما يقوم المتظاهر "بشتم والدة" الجندي مثلاً، يثور الجندي في داخله وهو الذي لم يشاهد والدته منذ أشهر، ويصب جام غضبه على المتظاهر!
وعلى أي حال، فإن الحجر أو إشعال إطار لا يرد الرصاصة ولا يحول دون الاعتقال كما يقول يحيى..
ليس جميع الشبان على قناعة بالسلمية كمبدأ رغم التزامهم بها كممارسة طبعت الثورة السورية حتى اللحظة. بل كثير منهم يرون فيها تكتيكاً يخدم أهداف الثورة أكثر من غيره. من أجل ذلك يرى يحيى أن تبني سلمية متطرفة من شأنه أن يحفظ لها مكاناً وسطاً في حال اتجهت الأمور وجهة أخرى في المستقبل في ظل إصرار النظام على سفك الدماء.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام يبقى التغيير على الصعيد الشخصي الذي خبره العديد من شباب الثورة خلال الأشهر القليلة الماضية.
معظم المتظاهرين في داريا هم من صغار السن، كثير منهم يستخدمون الألفاظ النابية أثناء التظاهر ويستفزون بسهولة على حد وصف رفاقهم في لجنة التنسيق.. في الواقع، من يصمد أمام استفزاز "الشبيحة" لأهل مدينة محافظة ومتدينة باستخدام عبارات من مثل "وين نسوانكم يا أهل داريا".
بمساعدة النشطاء الميدانيين في داريا، حصل تغير ملموس لدى العديد من شبان المظاهرات.. رغم ضيق الوقت والضغط الأمني والأحداث المتسارعة، يبقى للنقاش دور كبير في لجنة المدينة التنسيقية، من أجل استبعاد بعض الممارسات وترسيخ أخرى.
يرى يحيى على سبيل المثال أنه في إحدى خيم العزاء التي أقيمت أخيراً لأحد شهداء المدينة، لوحظ أن الشباب كانوا أكثر حماساً للكلمات التي ألقيت من قبل نشطاء ومعارضين حول الديموقراطية والمدنية، منهم لكلمات رجال الدين الذين كانت لهم الكلمة الأولى قبل الثورة.
بعض الشبان كانوا من الشباب" الطائش"، الذين يخجل البعض بمجرد إلقاء التحية عليهم، أصبحوا الآن رفاق درب وشركاء في المصير، وقد توارت الكثير من صفاتهم السلوكية والأخلاقية غير المقبولة، على حد قوله.
بعض من كانوا من دعاة الرد بالحجارة في حال حصول هجوم أمني على المتظاهرين، خرجوا بمبادرة تقديم المياه والورود إلى عناصر الجيش والأمن.
جرى تطبيق الفكرة قبل عدة أسابيع، حيث طوقت أعداد هائلة من الجيش والأمن المنطقة التي تقوم فيها المظاهرات عادة. تجمع شباب المظاهرة بالقرب منهم وبدأوا بوضع قوارير المياه والورود مع مناشير كتب عليها "كلنا سوريون... لماذا تقتلون"... على خط فاصل بين الطرفين، فبدأ الجنود بإطلاق الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي.
تراجع الشبان عدة أمتار إلى الوراء، وتولى "إسلام" مسؤولية توصيل الرسالة. بدأ بالحديث معهم عبر خط الماء والورد، حول سلمية الثورة وأهدافها، التي ليس منها إيذاء الجنود أو أي شخص كان.
ارتبك الجنود في البداية، بعد قليل بدأوا بجمع المناشير التي كان الشبان يرمونها تجاههم وقراءتها، في الوقت الذي كانت المظاهرة تهتف "الجيش والشعب يد وحدة". ثم قام الجنود بجمع قوارير المياه عن الأرض. أحدهم حاول إعادة إطلاق الرصاص المطاطي باتجاه المظاهرة إلا أن زملاءه منعوه، بينما كانوا يلوحون للمتظاهرين الذين أخذوا يبتعدون بهدوء!
لا يعلم يحيى ورفاقه إذا كان الجنود قد شربوا مياه السلمية التي قدموها لهم، لكن بالتأكيد عاد كثير من المتظاهرين في ذلك اليوم إلى منازلهم وهم على قناعة بأن هذا النهج قد يؤدي إلى نتيجة. فعدد الاعتقالات كان يومها هو الأقل، ولا إصابات.
في الجمعة اللاحقة، أصر إسلام الدباس، على تجاوز خط الفصل وتقديم الورود بشكل مباشر للجنود وعناصر الأمن. كان يهدف إلى تحقيق نوع من الالتقاء بالأعين بين الشباب وبين من أتوا لقتلهم وقمعهم. هذا اللقاء الذي يكسر الحواجز النفسية ويتيح للآخر رؤية ما لا تتيحه الحجب التي تقيمها دعايات النظام وأكاذيبه. هذا أمر صعب التحقق على اعتبار أن الأوامر عادة تقضي بإطلاق النار عن بعد وعدم حصول أي تماس مع المتظاهرين إلا عن طريق السلاح. إسلام اختفى بين عناصر الأمن الذين اعتقلوه، هو والورود التي ذهب لتقديمها لهم. ولا يزال حتى اللحظة في إحدى زنازين المخابرات الجوية.
قصة إسلام بالذات لفتت نظري، لأنني اعتقدت أن دعاة السلمية قد يراجعون منهجهم عندما ينالهم ألم شخصي. لكن اعتقال والد إسلام منذ عدة أسابيع لم يثنه عن الاستمرار في ما بدأ به.
يقول يحيى: أن أكون مقتولاً أفضل من أكون قاتلاً.. وحتى بعيداً عن هذه القناعة، فإن ولاءه في البداية والنهاية هو لانتصار الثورة، ولا يرى في دفاع الناس عن نفسها مؤشراً على ازدياد فرص نجاح الثورة.
يبدو لي يحيى حالماً إلى درجة ما، وليس مثالاً يمكن تعميمه، بل استثناء من بين استثناءات قليلة. لا أخفي أنني لا أستطيع النظر إلى تجربته ورفاق دربه بحياد، فقد تعاملت مع عشرات المجموعات الناشطة ميدانياً منذ بداية الثورة. صحيح أن معظمها متمسك بالسلمية كممارسة، لكنها على الصعيد الفكري، وفي أوجه عديدة، تشبه سوريا ما قبل الثورة! هذا هو الأقرب إلى الطبيعي في الواقع.. على عكس يحيى الذي يرى أن الثورة يجب أن تغير وجهات نظرنا عن كل شيء، عن الدين والمجتمع والسياسة.... يجب أن تتحقق الثورة في داخلنا قبل أن تتحقق على الأرض، يقول. خطاب العقل والمحبة يحضر بقوة في ثورته على الصعيد الشخصي. وهو يتوجه باللوم إلى المثقفين والمعارضين لأنهم لا يقومون بما يجب لمخاطبة الناس في كثير من الأمور التي يحتاجون فيها إلى خطاب جديد ومجدد أثناء ثورتهم.
استطاعت داريا نقل جانب من تجربتها ورؤيتها إلى بعض المناطق الأخرى في ريف دمشق. في جمعة "صمتكم يقتلنا" على سبيل المثال، قام المتظاهرون في منطقة التل بتوزيع الماء مع حلوى التمر للجنود، في استلهام لتجربة داريا وبعد نقاش معهم.
يقول أحد المنسقين في لجنة داريا، بأن النظام، بتصاعد قمعه وأعماله الاستفزازية، يرغب بجر الحراك إلى منزلق العنف، فضلاً عن تضليل رجال الجيش والأمن حول ماهية المظاهرات والمشاركين فيها. كان يجب أن نقوم برد فعل ما. قدمنا لهم الماء لأنهم عطشى وقت الظهيرة، والحلوى لأن معظمهم كان جائعاً وأوضاعهم المادية أسوأ من أن يقوموا بشراء الطعام على نفقتهم!
بعد بداية المظاهرة بنحو ساعة، توجه المتظاهرون إلى مكان تجمع الأمن فاستعد هؤلاء لمهاجمة المتظاهرين الذين بادروا بالجلوس على الأرض قبالتهم.
وقام بعض الشباب بصف قوارير الماء على عرض الشارع وعلى كل منها قطعة "عجوة " كتب على غلافها عبارة "كلنا سوريون .. لماذا تعتقلوننا.. رمضان كريم"، وأثناء ذالك تمت مخاطبة رجال الجيش والأمن عبر مكبر الصوت بعبارات محبة وسلام، وأن المظاهرة ستنتهي اليوم باكراً، كهدية لكم حتى تنالوا قسطاً من الراحة!
بعدها تم ترديد هتاف "الجيش والشعب يد وحدة" ثم النشيد الوطني وإنهاء المظاهرة بهدوء. بينما قام أحد رجال الأمن بجمع قوارير الماء و"العجوة"، ولا نعرف إن كان قد تم فيما بعد توزيعها على الجنود أم إتلافها!
يقول المنسق إن التجربة كانت مذهلة، خصوصاً وأن طرح الفكرة قوبل باستنكار كبير من قبل بعض الشباب في البداية. واحتاج الأمر إلى كثير من النقاش والجدل لإقناعهم بها. فالبعض يرى أن عناصر الأجهزة الأمنية بشكل خاص قد أقفلوا قلوبهم دون الناس، ولا فائدة من محاولة مخاطبتهم بأي وسيلة. والواقع يثبت أن هذا ليس صحيحاً، كما يقول، حيث كانت هناك العديد من الحالات التي ساعد فيها عناصر أمن بعض المتظاهرين على الهرب. وبطبيعة الحال، كلما كانت هناك استجابة أكبر من عناصر الجيش والأمن لمثل هذه المبادرات، ساعد ذلك على ترسيخ هذا النهج لدى الشباب، كما يقول.
قد يستغرب الكثيرون الحديث عن تجربة داريا والتل في هذا التوقيت بالذات، حيث عنف النظام ضد الناس قد بلغ أقصاه، وفي الوقت الذي تمتلئ فيه لحظاتنا بعبارات الغضب والألم.. لكنني أرى في تلك التجربة نقطة ضوء تجعل المستقبل أقل قسوة مما نتوقع أن يكون. هنا من يتحدث عن المحبة، وهنا من يتحدث عن التغيير، ليس فقط على مستوى النظام، إنما على مستوى ما خربه النظام فينا طيلة عقود.. هنا من يدرك أن هناك أشياء أخرى يتعين علينا أن نثور ضدها قبل أو بعد سقوط النظام..هؤلاء ليسوا أغلبية، هم حتى اللحظة الاستثناء، لكن للمرة الأولى، الاستثناء الجميل.

نقلا عن موقع المستقبل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق